فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله: {حم} ويختص هذا الموضع بقول آخر، قاله الضحاك. والكسائي: إن {حم} هجاء حُمَّ بضم الحاء وشد الميم المفتوحة، كأنه يقول: حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله. وقال ابن عباس: {الر} [يونس: 1، هود: 1، إبراهيم: 1، يوسف: 1، الحجر: 1] و: {حم} [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] و: {ن} [القلم: 1] هي حروف الرحمن مقطعة في سور، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه. وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن: {حم} ما هو؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور.
وقرأ ابن كثير: فتح الحاء، وروي عن أبي عمرو: كسر الحاء على الإمالة، وروي عن نافع: الفتح، وروي عنه: الوسط بينهما، وكذلك اختلف عن عاصم، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة، وقرأ جمهور الناس: {حَمْ} بفتح الحاء وسكون الميم، وقرأ عيسى بن عمر أيضًا {حم} بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق، ولذلك وجهان: أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة، والآخر: حركة إعراب، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي: الطويل:
يذكرني حم والرمح شاجر ** فهلا تلا حم قبل التقدم

وقول الكميت: الطويل:
وجدنا لكم في آل حم آية ** تأولها منا تقيّ ومعرب

وقرأ أبو السمال: {حم} بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة، وذلك لالتقاء الساكنين.
و: {حم} آية: و: {تنزيل} رفع بالابتداء، والخبر في قوله: {من الله} وعلى القول بأن {حم} إشارة إلى حروف المعجم يكون قوله: {حم} خبر ابتداء: و: {الكتاب} القرآن.
وقوله: {غافر} بدل من المكتوبة، وإن أردت ب {غافر} المضي، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين، فيجوز أن يكون {غافر} صفة، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة، وهذا مترجح جدًّا، وإذا أردت ب {غافر} الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة، و: {غافر} نكرة فلا يكون نعتًا، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة، وفي هذا نظر. وقال الزجاج: {غافر} {وقابل} صفتان. و: {شديد العقاب} بدل، و: {الذنب} اسم الجنس. وأما {التوب} فيحتمل أن يكون مصدرًا كالعوم والنوم فيكون اسم جنس، ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر، وساعة وساع. وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى، وقبول التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقال نعم، اعمل ولا تيأس، ثم قرأ هذه الآيات إلى {قابل التوب}.
و{شديد العقاب} صفة، وقيل بدل. ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله: {ذي الطول} أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه، فترتب في الآية بين وعدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه.
قال القاضي أبو محمد: سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسريين يريد في قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا} [الشرح: 5- 6].
و: {الطول} الإنعام، ومنه: حليت بطائل. وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى: {غافر الذنب} فضلًا، {وقابل التوب} وعدًا، و{شديد العقاب} عدلًا. وقال ابن عباس: {الطول} السعة والغنى، ثم صدع بالتوحيد في قوله: {لا إله إلا هو}. وبالبعث والحشر في قوله: {إليه المصير}.
وقوله: {ما يجادل في آيات الله} يريد جدالًا باطلًا، لأن الجدال فيها يقع من المؤمنين لكن في إثباتها وشرحها.
وقوله: {فلا يغررك} أنزله منزلة: فلا يحزنك ولا يهمنك، لتدل الآية على أنهم ينبغي أن لا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم، فالخطاب له والإشارة إلى من يقع منه الاغترار، ويحتمل أن يكون {يغررك} بمعنى تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرًا لهم فتقول عسى أن لا يعذبوا وحل الفعل من الإدغام لسكون الحرف الثاني، وحيث هما متحركان لا يجوز الحل، لا تقول زيد يغررك. و: {تقلبهم في البلاد} عبارة عن تمتعهم بالمساكين والمزارع والأسفار وغير ذلك. ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء.
{الأحزاب} يريد بهم عادًا وثمود أو أهل مدين وغيرهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {برسولها} ردًا على الأمة، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها.
وقوله: {ليأخذوه} معناه ليهلكوه كما قال تعالى: {فأخذتهم} والعرب تقول للقتيل: أخيذ، وللأسير كذلك، ومنه قولهم: أكذب من الأخيذ الصبحان. وقال قتادة: {ليأخذوه} معناه: ليقتلوه. و{ليدحضوا} معناه: ليزلقوا وليذهبوا، والمدحضة المزلة والمزلقة.
وقوله: {فكيف كان عقاب} تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)} وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {كذلك سبقت كلمة} والمعنى: كما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أهل النار وسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر: {كلمات} على الجمع، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وابن نصاح وقرأ الباقون: {كلمة} على الإفراد وهي للجنس، وهي قراءة أبي رجاء وقتادة، وهذه كلها عبارة عن ختم القضاء عليهم.
وقوله: {أنهم} بدل من {كلمة}.
ثم أخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش، وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسألون الله لهم الرحمة والجنة، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية: {كان على ربك وعدًا مسوؤلًا} [الفرقان: 16] أي سألته الملائكة، وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى في غير هذه الآية {ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5] لأنه معلوم أن الملائكة لاتستغفر لكافر، وقد يجو أن يقال معنى ذلك أنهم يستغفرون للكفار، بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك، وعلى هذا النحو هو استغفار إبراهيم لأبيه واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين. وبلغني أن رجلًا قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي، فقال له: تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هوخير مني، وتلا هذه الآية. وقال مطرف بن الشخير: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة» وقرأت فرقة: {العُرش} بضم العين، والجمهور على فتحها.
وقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا} نصب الرحمة على التمييز وفيه حذف تقديره: يقولون، ومعناه: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحمًا وتصببت عرقًا وطبت نفسًا. وسبيل الله المتبعة: هي الشرائع.
وقرأ جمهور الناس: {جنات عدن} على جمع الجنات. وقرأ الأعمش في رواية المفضل: {جنة عدن} على الإفراد، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. والعدن: الإقامة.
وقوله: {ومن يصلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} روي عن سعيد بن جبير في تفسير ذلك: أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول: أي أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة: وقرأ عيسى بن عمر: {وذريتهم} بالإفراد.
وقوله: {وقهم} أصله أوقهم، حذفت الواو اتباعًا لحذفها في المستقبل، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف، ومعناه: اجعل لهم وقاية تقيهم {السيئات} واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من {السيئات} فيكون في اللفظ على هذا حذف مضاف، كأنه قال: وقهم جزاء السيئات. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {حم} قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعًا، وقرأ حمزة، والكسائي بإمالته إمالة محضة.
وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: {حم} بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة.
وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر، أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب.
وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم.
وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم.
وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه، فقيل: هو اسم من أسماء الله، وقيل: اسم من أسماء القرآن.
وقال الضحاك، والكسائي معناه: قضى، وجعلاه بمعنى حمّ أي: قضى، ووقع، وقيل: معناه حمّ أمر الله، أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه.
وهذا كله تكلف لا موجب له، وتعسف لا ملجىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدّمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.
{تَنزِيلُ الكتاب} هو: خبر ل {حم} على تقدير أنه مبتدأ، أو خبر لمبتدأ مضمر، أو هو: مبتدأ، وخبره {مِنَ الله العزيز العليم} قال الرازي: المراد بتنزيل المنزل، والمعنى: أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه.
والعزيز: الغالب القاهر، والعليم: الكثير العلم بخلقه، وما يقولونه، ويفعلونه.
{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} قال الفرّاء: جعلها كالنعت للمعرفة، وهي: نكرة، ووجه قوله هذا: أن إضافتها لفظية، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه: إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة، وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة.
وأما الكوفيون، فلم يستثنوا شيئًا بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص، فيجوّزون في {شديد} هنا أن تكون إضافته محضة.
وعلى قول سيبويه: لابد من تأويله بمشدّد.
وقال الزجاج: إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل.
وروي عنه: أنه جعل غافر، وقابل مخفوضين على الوصف، وشديد مخفوض على البدل، والمعنى: غافر الذنب لأوليائه، وقابل توبتهم، وشديد العقاب لأعدائه، والتوب مصدر بمعنى: التوبة من تاب يتوب توبة، وتوبًا، وقيل: هو جمع توبة، وقيل: غافر الذنب لمن قال: لا إله إلا الله، وقابل التوب من الشرك، وشديد العقاب لمن لا يوحده، وقوله: {ذِى الطول} يجوز أن يكون صفة، لأنه معرفة، وأن يكون بدلًا، وأصل الطول الإنعام، والتفضل، أي: ذي الإنعام على عباده، والتفضل عليهم.
وقال مجاهد: ذي الغنى، والسعة.
ومنه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] أي: غنى، وسعة، وقال عكرمة: ذي الطول ذي المنّ.
قال الجوهري: والطول بالفتح المنّ يقال منه: طال عليه، ويطول عليه إذا امتنّ عليه.
وقال محمد بن كعب: ذي الطول ذي التفضل.
قال الماورودي: والفرق بين المنّ، والتفضل: أن المنّ عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحقّ.
ثم ذكر ما يدلّ على توحيده، وأنه الحقيق بالعبادة، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} لا إلى غيره، وذلك في اليوم الآخر.
ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله؛ ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله، فقال: {مَا يجادل في ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} أي: ما يخاصم في دفع آيات الله، وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمراد: الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحقّ كما في قوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}.
فأما الجدال لاستيضاح الحقّ، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح، والمرجوح، وعن المحكم، والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وقال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159]، وقال: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في البلاد} لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغترّ بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد، وما يحصلونه من الأرباح، ويجمعونه من الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وإن أمهلوا، فإنهم لا يهملون.
قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
قرأ الجمهور: {لا يغررك} بفك الإدغام.
وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير بالإدغام.